المجمع الكيميائي التونسي: صناعة الموت التي دفع ثمنها أهالي قابس

تجلس "ذهبية" 65 سنة، في مكانها المعتاد داخل منزلها، عاجزة عن الحركة إلا بمساعدة ابنتها، من بعيد تبدو هادئة لكن إذا تكلّمت تشنّجت وعلا صوتها معبّرا عما يختلج في صدرها من أحاسيس، هكذا تقضي أيامها بعد أن فتك بها المرض وفقدت بصرها وأصبحت غير قادرة على المشي. حالها حال الكثيرين من سكان قابس وخاصة مناطق الطوق المحيطة بالمجمع الكيميائي التونسي بقابس، وهي شاطئ السلام، غنوش .وبوشمة، الذين يهدّد كابوس التلوث حياتهم·هن وأرزاقهم·هن.

27 دقيقة

يؤكد.ن أهالي هذه المناطق أن المجمع الكيميائي التونسي كان فرحة بالنسبة لآبائهم·هن وأجدادهم·هن وكانوا.كن يرون فيه حلا للبطالة وبداية الغيث الذي سينزل عليهم·هن إلا أن هذا الحلم تبعثر واندثر، فكيف تحوّل حلم التنمية في قابس إلى لعنة موت بطيء؟

تروي “ذهبية”، أنها قبل الانتقال للعيش في قابس منذ حوالي 50 سنة كانت بصحة جيدة ولا تشكو من أي مرض، لكنها اليوم تعاني من التهابات حادة خاصة في الكبد مما تسبّب لها في انسداد عروق عينيها وفقدانها البصر بشكل كامل، مع صعوبة في التنفس عند المشي، وأرجعت الأسباب إلى انتشار “البخارة” والميناء الصناعي بالمنطقة.

صورة ذهبية

أبناؤها·بناتها أيضا لم يسلموا·ن من الأمراض جراء التلوث المنتشر بالمنطقة، فابنتها منى تعاني أيضا من الالتهاب مما يجعلهما تستعملان الأدوية معا في حال عجز واحدة منهما عن شراء أدويتها نتيجة الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشانها.

بنظرة يائسة ونبرة حزينة، تستحضر “ذهبية”معاناة زوجها المتوفي “مبروك” بسبب مرض فقدان المناعة. ثم تصمت قليلا قبل أن تسترسل في الحديث عن ابنها الذي تجاوز سن الأربعين وظهرت عليه نفس أعراض مرض والده، حيث فقد كل أسنانه ويصاب بارتعاشة على مستوى الساقين عند المشي.

يتفق أهالي قابس، الذين التقينا بهم وحاورناهم خلال جولتنا بالمنطقة، مع “ذهبية” في توجيه أصابع الاتهام إلى المجمع الكيميائي كسبب رئيسي للأمراض المنتشرة بالجهة مثل السرطان والالتهابات وهشاشة العظام ومشاكل الجهاز التنفسي.

ماذا تعرف عن المجمع الكيميائي التونسي؟

يعود تاريخ المجمع الكيميائي التونسي لسنة 1947 مع تأسيس الشركة الصناعية للحامض الفوسفوري والأسمدة SIAPE في صفاقس، الذي انطلقت في العام 1952 في صناعة ثلاثي الفسفاط الرفيع.

وفي سنوات السبعينات والثمانينات واصلت تونس الاستثمار في وحدات الإنتاج، خاصة مع إنشاء أول مصنع في قابس سنة 1972 بإسم الصناعات الكيميائية المغاربية ICM والمتخصص في إنتاج الحامض الفوسفوري.

وفي سنة 1979 تم بعث مصنع “الداب” بقابس تحت اسم الشركة العربية للأسمدة الفسفاطية والآزوتية SAEPA، ليتواصل تركيز المصانع في قابس، بإضافة مصنع جديد لانتاج سماد الداب تحت اسم أسمدة قابس EG سنة 1985.

جدول زمني: تاريخ المجمع الكيميائي التونسي

تاريخ بناء المجمع الكيميائي التونسي

خط زمني لأبرز محطات تأسيس وتوسع المجمع الكيميائي التونسي

وحاليا تضم المنطقة الصناعية في غنوش من ولاية قابس أكبر منصة إنتاج تابعة للمجمع الكيميائي التونسي حيث تتواجد مجموعة من المصانع المتخصصة في الصناعات الكيميائية، وهي مصنع الحامض الفوسفوري ويضم ثلاث وحدات إنتاج للحامض الفوسفوري والفسفاط العلفي. إضافة إلى مصنعي الداب “أ” والداب “ب” لإنتاج الحامض الفوسفوري وفسفاط الأمونيا، كما نجد في قابس أيضا مصنع الأمونيتر.

خريطة مصانع المجمع الكيميائي التونسي بقابس

خريطة مصانع المجمع الكيميائي التونسي بقابس

المنطقة الصناعية بغنوش تحتوي على 4 مصانع تابعة للمجمع الكيميائي التونسي
👆 اضغط على أي مصنع للمزيد من التفاصيل
جاري تحميل خريطة قابس…
قمر صناعي
شوارع
المجمع

وسط كل هذه المصانع، تفتقر ولاية قابس إلى مرافق صحية تستجيب لاحتياجات الأهالي، مما زاد من معاناة “ذهبية” التي تجد نفسها مضطرة للتنقل إلى ولاية صفاقس لإجراء الفحوصات والمتابعة الطبية اللازمة، مثلها مثل باقي سكان الولاية الذين يلتجؤون إلى مستشفيات الولايات الأخرى مثل تونس والمنستير وصفاقس.

شريفة عطية مواطنة أخرى من منطقة شاطئ السلام، تحمل نفس الأوجاع والمعاناة، فهي مصابة بمرض السرطان. في البداية أصيبت بسرطان الرحم وتمكّنت من التغلب عليه بعد رحلة علاج طويلة، وما إن تخلّصت منه حتى اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي مما استوجب استئصال ثديها الأيسر.

وتشير إلى أنها أيضا أصيبت بـ”الحمرة” على مستوى ساقها اليسرى التي أصبح لونها أسودا مع اسوداد وتساقط أظافرها، واستوجب علاجها إقامتها في المستشفى لمدة شهر كامل. مؤكدة أن الأطباء أخبروها أن سبب الأمراض التي أصابتها هو تلوث الهواء الذي تتعرض له بشكل مستمر.

يؤكد الناشط بالمجتمع المدني بشير الفتوي أن الغازات المنبعثة من مصانع المجمع الكيميائي تسبّب لأهالي المنطقة اختناقات متكررة وضيق تنفس وقلة نوم، باعتبار أن إطلاق الغازات من الوحدات الملوثة يتم عادة في ساعات متأخرة من الليل، أو في ساعات الفجر الأولى.

وينتقد حالة المرافق الصحية بالولاية التي يعتبرها “هي الأخرى في حاجة لطبيب يعالجها”، ويؤكّد أن المستشفى الجامعي لا يرقى إلى أن يكون حتى مستوصفا والخدمات الصحية الموجودة به مفتقرة للحد الأدنى، والموارد البشرية من إطار طبي وشبه طبي تكاد تكون منعدمة تماما،

ويشدّد الفتوي على أن “المستشفى الجامعي لا يوجد به أساتذة جامعيين، الاستعجالي لا يوجد به كراسي متحركة وبه طبيب واحد متربص وكل أقسامه تعاني من النقص”.

يوضّح الطبيب الناشط بالمجتمع المدني مراد الثابتي، أنه لا يمكن الربط بين التلوث ومرض ما إلا عن طريق الأبحاث العلمية، لكن يؤكد انتشار حالات الإصابة بمرض السرطان في قابس عموما ومنطقتي شاطئ السلام وغنوش خاصة بطريقة ملحوظة، ومن أكثر أنواع السرطانات انتشارا سرطان الجهاز التنفسي والكبد.

ومن بين الأعراض المنتشرة لدى أهالي منطقة الطوق، بقع داكنة على الجسم يصاحبها شعور بالحكة والحرقان، وهو ما أكد الدكتور الثابتي انتشاره خاصة في السنوات الأخيرة نتيجة التعرض لمواد كيميائية إما عن طريق البحر أو الهواء مما يتسبب في تهيّجات وحساسية جلدية وطفح جلدي. كما ينتج عن هذه الغازات أيضا انتشار مرض الربو أو ضيق التنفس المزمن خاصة في صفوف الأطفال وكبار السن باعتبارهم من الفئات الهشة الأكثر عرضة للتأثر من التلوث.

دراسة المفوضية الأوروبية سنة 2018

تبيّن دراسة نشرتها المفوضية الأوروبية سنة 2018 أن أكثر من 95 بالمائة من التلوث الهوائي في قابس ناتج عن المجمع الكيميائي، إذ يتم سنويا إطلاق مئات الأطنان من الغازات الملوثة مثل ثاني أكسيد الكبريت أو ما يعرف بـ”البخارة” والأمونياك والعديد من الغازات الأخرى كريهة الرائحة، والتي يتعرض لها أكثر من 180 ألف ساكن من سكان الولاية.

الانبعاثات الجوية السنوية

📊 الانبعاثات الجوية السنوية

المجمع الكيميائي التونسي – ولاية قابس

👆 اضغط على أي غاز للمزيد من التفاصيل
95%
من التلوث
180K
ساكن متضرر
25.5K
طن سنوياً

🏭 تفصيل الانبعاثات حسب النوع

🏭
ثاني أكسيد الكبريت “البخارة”
22 ألف طن
86.4% من إجمالي الانبعاثات
🫁
الجسيمات العالقة
1.750 طن
6.9% من إجمالي الانبعاثات
🌿
أكسيد النيتروجين
900 طن
3.5% من إجمالي الانبعاثات
👃
الأمونياك
450 طن
1.8% من إجمالي الانبعاثات
🌬️
غازات كريهة الرائحة
220 طن
0.9% من إجمالي الانبعاثات
⚠️
فلوريد الهيدروجين
135 طن
0.5% من إجمالي الانبعاثات
📋 المصدر والسياق
تبيّن دراسة نشرتها المفوضية الأوروبية سنة 2018 أن أكثر من 95 بالمائة من التلوث الهوائي في قابس ناتج عن المجمع الكيميائي، إذ يتم سنوياً إطلاق مئات الأطنان من الغازات الملوثة التي يتعرض لها أكثر من 180 ألف ساكن من سكان الولاية.

من جانبه، يبيّن الإطار السابق بالمجمع الكيميائي بولبابة العسكري أنه على عكس ما يعتقده المواطنون·ات فإن التلوث في قابس لا يسبّبه المجمع الكيميائي فقط بل هو مزيج ناتج عن المجمع الكيميائي وعدد من المصانع المجاورة له والمنتصبة بالمنطقة الصناعية.

لا نريد خسارة القطب الصناعي بقابس لكن يجب أن تتكاتف كل الأطراف من أجل تقليل أسباب التلوث في قابس

بولبابة العسكري، إطار سابق بالمجمع الكيميائي

يفسّر العسكري أن الروائح المزعجة التي يشتكي منها أهالي قابس هي الحامض الفوسفوري والحامض الكبريتي أو ما يعرف بالبخارة، وكحل لهذه الروائح تم القيام بدراسة أفضت إلى الزيادة في ارتفاع مداخن المصانع، لكن هذا الإجراء أضر بالمناطق الأبعد، فسابقا كانت الروائح تشمل حدود 3 كم فقط لكنها توسعت لتشمل القرى المجاورة لمدينة قابس.

ويوضّح أن الشركة الكيميائية للفليور (ICF) تنتج عنها غازات تتسبب في حرقان بالجسم، مشيرا إلى أن العمال·العاملات بهذه الشركة الذين·اللواتي يتعرضون·ن للحرق بمادة HF يشعرون·ن بتهيج في مكان الحرق، إلا أن الأطباء في البداية لم يولوا ذلك أهمية لأنه لا يترك أثرا مما جعل القسم الطبي بالمجمع الكيميائي التونسي يراسل جميع الأطباء الخواص والتابعين للصحة العمومية لإعلامهم·هن بأن مادة HF مضرّة ويمكن أن تتسبب في ثقوب بالعظام، وهي قد تكون سببا من أسباب انتشار هشاشة العظام بقابس.

أما بالنسبة لوحدة "سايبا 2" فينتج عن عملها الأسيد نيتريك نتيجة خلل فني وهو الدخان المستحمر، الذي من المفروض أن يحدث عند تشغيل الآلات بالوحدة لدقائق محدودة فقط، لكن استمراره دليل على وجود خلل يجب إصلاحه.

ويشير الإطار السابق بالمجمع الكيميائي إلى أن تسرّب هذا الدخان في الهواء يسبّب الاختناق، و في حال تسرّبه في المختبر يجب على كل العاملين·ات الخروج منه وفتح النوافذ لتهوئة المكان وتفادي حالات الاختناق.

بحر قابس رحمه الله

خميس، بحار من غنوش

الغازات والفضلات الكيميائية الناتجة عن عمل المجمع الكيميائي لم تؤثر فقط على صحة السكان بل أثرت أيضا على الكائنات البحرية. فعلى شاطئ بحر غنوش ذو المياه السوداء كسواد رماله، يقف البحار خميس متأمّلا متحسّرا، تنتقل نظراته بين البحر والقوارب الراسية التي هجرها أصحابها لأنها لم تعد تؤمّن لهم قوت يومهم.

ويروي خميس، الذي يعمل بحّارا منذ 25 سنة، أنه سابقا كانت بعض أنواع الأسماك والأصداف البحرية تعيش على بعد مترات فقط من الشاطئ والبحّارة لا يحتاجون تجهيزات لصيدها، ثم يستدرك "لكن الميناء أضر بالبيئة البحرية".

ويشير إلى أن العديد من الأسماك انقرضت من خليج قابس بسبب التلوث والسكب المتواصل للفوسفوجيبس ومياه ديوان التطهير في البحر، مما جعل الأسماك تبتعد وتبحث عن بيئة أكثر أمانا لتضع بيضها، وهو ما اضطر الصيّادين إلى الابتعاد أكثر عن مناطق الصيد المعتادة أملا في الحصول على صيد بالكاد يؤمّن لهم احتياجاتهم اليومية.

يبدأ يوم خميس وأصدقائه حوالي الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، لكن بعد يوم طويل في عرض البحر لا يمكنهم إلا صيد ما قيمته 50 أو 60 دينارا لا يتبقّى لهم منها سوى القليل بعد احتساب كلفة البنزين.

ويوضّح محدّثنا أن التلوث الذي يشهده البحر في المناطق القريبة من المجمع الكيميائي لم يؤثّر فقط على البيئة البحرية والتنوع البيولوجي فحسب، بل حتى القوارب تضرّرت من المياه الملوثة بالأسيد والأمونياك وأصبحت تخرج عن الخدمة في ظرف 5 أو 6 سنوات.

كان خليج قابس يتميّز بكثرة المد والجزر ودفئ مائه في الشتاء وهذا ما يجعل أسماك البحر المتوسط تتوجه لتضع بيضها هناك، كما كان يتميّز أيضا بتنوع التضاريس والأعشاب والكائنات البحرية، فقبل أن يتلوّث البحر بسبب سكب الفوسفوجيبس، كان يضم حوالي 270 نوعا من الأسماك، إلا أنه وفق آخر الإحصائيات التي قامت بها الجمعية التونسية للبيئة والطبيعة بقابس لا تتجاوز أنواع الأسماك الموجودة في خليج قابس أكثر من 70 نوعا، وفق ما أفاد به رئيس الجمعية فؤاد كريّم في تصريح لكشف ميديا.

ويشير كريّم إلى أن تبلّط الفوسفوجيبس في البحر يتسبّب في موت النباتات وبالتالي تراجع الكائنات البحرية التي تعيش في المنطقة، حيث أصبح ارتفاع الفوسفوجيبس في بحر شاطئ السلام يقارب المتر.

تثمين الفوسفوجيبس وحذفه من قائمة المواد الخطرة

يوم 4 مارس 2025 شدد رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال لقائه بوزيرة الصناعة والطاقة والمناجم على ضرورة إيجاد حل نهائي للفوسفوجيبس، مشيرا إلى إمكانية استغلاله دون أيّ أثر سلبي على البيئة. ويوم 5 مارس اجتمع مجلس وزاري مضيّق بشأن البرنامج المستقبلي لتطوير إنتاج ونقل وتحويل الفسفاط خلال الفترة 2025-2030. واتخذ المجلس قرارا بحذف الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة وتثمينه.

💡
ماهي مادة الفوسفوجيبس

الفوسفوجيبس هو مادة كيميائية ناتجة عن عملية تحويل الفسفاط لإنتاج الحامض الفوسفوري، وتحتوي هذه المادة على عدة معادن ثقيلة مثل الرصاص والزنك والكادميوم والزئبق والفوسفور غير المتفاعل والزرنيخ والراديوم الذي ينبعث منه غاز الرادون 222.

الأمر عدد 2339

وفي تونس تم تصنيف الفوسفوجيبس في قائمة المواد الخطرة منذ سنة 2000 بمقتضى الأمر عدد 2339 الصادر في 10 أكتوبر سنة 2000 والمتعلق بضبط قائمة المواد الخطرة.

وواجه قرار حذف الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة ردود فعل رافضة في قابس خاصة من المجتمع المدني وتم اعتباره "تنصّل" من قرار تفكيك الوحدات الملوثة الصادر في جوان 2017، وبتاريخ 23 ماي نفّذ الأهالي وقفة احتجاجية أمام مقر الولاية للمطالبة بتفكيك الوحدات الملوثة ورفضا لقرار إعادة تصنيف الفوسفوجيبس ومشاريع الهيدروجين الأخضر.

يوضّح الناشط البيئي بحركة أوقفوا التلوث، خير الدين دبية أنه لا يمكن حصر حل مشكلة التلوث في قابس بتثمين مادة الفوسفوجيبس، ففي الوقت الذي كان فيه سكان قابس ينتظرون تطبيق قرار تفكيك الوحدات وخفض النشاط الصناعي بالمنطقة بهدف التقليل من التلوث، تأتي القرارات الحكومية بالرفع من الإنتاجية وسحب الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة وتثميه، وإضافة صناعات جديدة مستنزفة مثل الهيدروجين الأخضر.

وكانت اللجنة العلمية المكلفة بدراسة الفوسفوجيبس قد كشفت أن الفوسفوجيبس التونسي لا يشكّل خطورة سميّة بيئية أو سميّة حادّة للإنسان، ولا يمثل خطرا للإشعاع، لكن مواصلة سكبه في البحر على مدى سنوات عديدة يسبب آثارا سلبية على النظام البيئي البحري.

وأفاد رئيس اللجنة وأستاذ الكيمياء بجامعة قفصة الإمام العلوي، على هامش يوم دراسي علمي انتظم بالبرلمان يوم الأربعاء 23 أفريل 2025، إن الإشعاع الطبيعي الفوسفوجيبس التونسي يناهز 270 بيكريل·للكغ وهو أقل من الحد المعياري الدولي البالغ 1000 بيكريل·للكغ وهو كذلك أقل من الإشعاع الطبيعي الفوسفوجيبس الأجنبي المتأتي من تحويل الفسفاط الطبيعي المترسّب.

تقرير للجنة العلمية المكلفة بدراسة الفوسفوجيبس

وأوضحت اللجنة، في تقريرها، أن تركيزات الزرنيخ والرصاص والزئبق في الفوسفوجيبس التونسي منخفضة للغاية بما أن الفسفاط التونسي خال عمليا من هذه المعادن الثقيلة.

تسعى الدولة التونسية لإيقاف سكب الفوسفوجيبس في البحر للتقليل من التلوث البحري الذي تعانيه جهة قابس، وهو ما أكدته وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم فاطمة ثابت شيبوب، خلال زيارة أدتها إلى مختلف وحدات الإنتاج بالمجمع الكيميائي بقابس، في شهر أفريل 2024.

من جهته، يشير الإطار السابق بالمجمع الكيميائي التونسي بولبابة العسكري إلى محاولة سابقة لوضع الفوسفوجيبس في أحواض على الأرض، علما أن الأرض التي يتم استعمالها يجب ألا تكون ماصة "terrain non absorbant" كي لا تشكّل خطرا على المائدة المائية. إلا أن هذه المحاولة فشلت ولم تكتمل لأن الخبراء والمهندسين وجدوا أن أغلبية المساحات المجاورة لمدينة قابس أرض ماصة "terrain absorbant" ووجدوا مكانا آخر يستجيب للمواصفات لكن سكان المنطقة رفضوا ذلك فتوقّف البرنامج.

وتشير دراسة المفوضية الأوروبية إلى أن الفوسفوجيبس هو الملوث الرئيس للبحر في قابس، حيث يفوق 5 مليون طن سنويا يتم سكبها في البحر إضافة إلى 350 متر مكعب من مياه التبريد و16 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصناعي، مما تسبب في موت منطقة بقطر 2.5 كم جنوب ميناء غنوش، وتلوث 8 آلاف هكتار بالكادميوم، وتلوث 30 هكتار من الشواطئ.

صورة سلحفاة نافقة على شاطئ بحر غنوش

لا نفهم ما نوع هذا التلوث تحديدا وإذا كان هذا ما يفعله بالأشجار فكيف يكون تأثيره على الإنسان

خ.م فلاح

معاناة الفلاحين بسبب التلوث لا تختلف عن معاناة البحارة، وبمواصلة جولتنا في منطقة شاطئ السلام قمنا بزيارة خ.م، الذي كان يقف في حقله متأمّلا بنظرات ملؤها الحزن والحسرة فبعد أن كان هذا الحقل مورد رزقه الذي يؤمّن به قوت عائلته أصبح اليوم شبه عاجز عن الإنتاج.

إن التلوث الذي تعانيه قابس منذ عشرات السنين لم يؤثّر فقط على صحة الأهالي والبيئة البحرية فقط، بل أيضا على الفلاحة ففي السنوات الأخيرة أصبح فلاحو منطقتي شاطئ السلام وغنوش عازفين عن زراعة أراضيهم بسبب نقص المياه وانتشار التلوث والتراجع الكبير في المحاصيل، مما جعلهم يجربون غراسة أنواع جديدة إلا أن النتيجة واحدة.

يؤكّد خ.م الذي يعمل في الفلاحة منذ صغره أن الفلاحة سابقا كانت أفضل مما هي عليه اليوم، وأن كل يوم يمر يصبح الوضع أصعب من قبل، واصفا حقله بأنه "كان جنة". ففي كل مرة يقوم بزراعة نوع من الأشجار تتحول في يوم وليلة من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر كأنها احترقت.

كان خ.م يزرع في حقله كل أنواع الخضر الورقية مثل السلق واللفت والخس وغيرها، إلا أنه أمام خسارته المتواصلة نظرا لارتفاع تكاليف الإنتاج وتلف المحصول في كل مرة، بدأ بتجربة غراسات جديدة لم يكن معتادا على إنتاجها في حقله كالرمان والزيتون. ورغم أن منطقتي شاطئ السلام وغنوش ليستا معروفتين بغراسة الزياتين إلا أن البعض من أصحاب الأراضي يحاولون بكل الطرق الممكنة التأقلم مع الوضع الذي وجدوا أنفسهم مضطرين للعيش فيه، كما أن البعض الآخر اضطروا لبيع أراضيهم.

للإطلاع أكثر على مخاطر هذا التلوث المنتشر بالمنطقة ومدى تأثيره على النظام البيئي، اتصلنا بالخبير البيئي مهدي العبدلي الذي أوضح لنا أن المعادن الثقيلة الموجودة في الفوسفوجيبس مثل الكادميوم والرصاص والفلور، تمتصها النباتات من التربة والمياه الملوثة مما يؤدي إلى إعاقة عملية البناء الضوئي وبالتالي تقزّم نمو النباتات وتشوّهات مورفولوجية مثل اصفرار الأوراق وكأنها محترقة، إضافة إلى تشوهات في الجذور.

ويؤكّد العبدلي أن المعادن الثقيلة تسبّب انخفاض خصوبة التربة نتيجة تراكم الفلور وهذا ينعكس على نتيجة المحاصيل الزراعية والنباتات وخاصة النباتات البرية، مما ينجرّ عنه تراجع تنوع الغطاء النباتي واختفاء الأنواع الحساسة وبالتالي اختلال النظام الإيكولوجي.

كما يؤدّي هذا التلوث إلى تراكم السموم في السلسلة الغذائية، باعتبار أن النباتات الملوثة تصبح ناقلة للمواد السامة للحيوان والإنسان عند الاستهلاك.

أما بالنسبة للحيوانات فعند استهلاكها للمواد الملوثة والرعي في المناطق التي بها ترسبات، تتعرض لتسمم مزمن يؤدي إلى إضعاف الجهاز المناعي لديها لأن المعادن الثقيلة تتسبب في انخفاض الخصوبة وخلل في وظائف الأعضاء.

ويوضّح العبدلي "في قابس توجد العديد من المناطق التي تعاني من ترسّبات الفوسفوجيبس وقد تم تسجيل عديد الحالات لنفوق الماشية وظهور تشوهات خلقية في بعض المناطق الأكثر تضررا من التلوث".

يصل إنتاج تونس السنوي من الفوسفوجيبس إلى 4.5 مليون طن مع تراكم إجمالي يقدر بـ130 مليون طن منذ 1952، يسكب 55 بالمائة منها مباشرة في خليج قابس. أما على المستوى المحلّي تنتج وحدات المجمع الكيميائي المنتصبة في قابس ما بين 12 ألف و500 حتى 16 ألف طن يوميا أي حوالي 5 مليون طن سنويا يتم سكبها مباشرة في البحر.

ويشير الخبير البيئي إلى أن الدراسات تؤكد أن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن التلوث في قابس تقارب 58 مليون دولار سنويا من تضرر الاقتصاد والسياحة، داعيا إلى ضرورة الرصد الأمني المستمر ووقف تصريف مادة الفوسفوجيبس في البحر والتربة وإطلاق مشاريع لاستعادة المواقع البيئية وتأهيلها وتشريك المج العلمي والمدني في خطط الحماية والتنمية البيئية.

 الخبير البيئي مهدي العبدلي

أي موقف للمجتمع المدني؟

يوكّد الناشط البيئي وعضو حركة "Stop Pollution" خير الدين دبية أن الاعتراض أو الاحتجاج على المشاكل البيئية قبل 2011 لم يكن ممكنا، لكن منذ سقوط نظام بن علي تحرّك المجتمع المدني والأهالي من أجل وقف هذه المأساة وتحوّلت المطالبة بوقف التلوث إلى مطلب أساسي ولا يزال إلى اليوم.

واعتبر أن "حذف مادة الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة والسعي إلى تثمينها تبييض لجرائمها واستفزاز لنضالات الأهالي والمجتمع المدني"، التي أفضت إلى قرار بتفكيك الوحدات الملوثة في جوان 2017، مشددا على أن كل الأطراف في قابس متمسكة بهذا القرار الذي جاء بعد سنوات من النقاشات وبإجماع كل المتدخّلين على أن الحل الوحيد لحل مشكل التلوث هو تفكيك الوحدات.

صورة لقرار تفكيك الوحدات الملوثة

ويوضح الناشط البيئي أن هذا القرار ليس حلا كليا لمشكل التلوث في قابس بل هو جزء من الحل، وأن التمشي لحل هذه الكارثة البيئية لا يمكن أن ينطلق إلا من خلال تطبيق قرار 2017.

ذهبية، شريفة، خميس، هي عينة من المعاناة اليومية التي يعيشها أهالي المناطق المحيطة بالمجمع الكيميائي، معاناة مستمرة منذ عشرات السنين وأصوات لم تُسمع رغم تعاقب الرؤساء والحكومات، اختزلتها ذهبية بالقول "الله غالب قدرة ربي.. يمكن كان جيت في بلاد أخرى راني لباس عليّا".

تنويه

تمّت كتابة هذا المقال بصيغة تراعي النوع الاجتماعي وتُحترم فيها حساسية التجارب الشخصية للمتأثرين/ات بالتلوث البيئي.

حرص فريق “كشف ميديا” على نقل الشهادات كما وردت من أصحابها/صاحباتها مع الحفاظ على كرامتهم/ن، ويأتي هذا العمل الصحفي بهدف تسليط الضوء على تأثير التلوث الصناعي والفوسفوجيبس على صحة سكان/ساكنات مدينة قابس وبيئتها، والدعوة إلى تبنّي حلول عاجلة ومستدامة، بعيدًا عن أي وصم أو تنميط. حاولنا التواصل مع وزارة البيئة للحصول على ردّ حول هذه المعطيات، لكن لم نتلقَّ أي إجابة، ونحن على استعداد في أي وقت لنشر حق الرد. تم التحقق من جميع المعلومات الواردة في هذا المقال من خلال مصادر متعددة وموثوقة، وهي تعبّر عن وجهة نظر أصحابها/صاحباتها ولا تمثّل بالضرورة موقف “كشف ميديا”.

بقلم

Picture of رجاء شرميطي

رجاء شرميطي

صحفية تونسية متحصلة على شهادة الماجستير المهني في الاتصال السمعي البصري ومهتمة بمجال حقوق الإنسان والقضايا الجندرية.

بمشاركة

مقالات مشابهة