سامحني نحب نرجع نقرى.. صحيح غلطت أما تعاقبت ونفسيتي تعبت
كلمات تقدمت بها التلميذة بكل حسرة، لتؤكد شعورها بالندم بسبب ما أقدمت عليه من عنف في حق أستاذتها، مترجية إياها أن تعفو عنها كي تتمكن من العودة الى مقاعد الدراسة بعد أن تم رفتها من جميع المعاهد.
كل شيء في حياة التلميذة (ش) تغير يوم 4 ديسمبر 2024، حيث تفيد أنها كانت تعاني من ضغط نفسي كبير بسبب مرض والدتها التي كانت بصدد الخضوع الى عملية جراحية، مما دفعها الى استعمال هاتفها الجوال خلسة داخل القسم لكن وبمجرد أن تفطنت لها الأستاذة قامت بسحبه منها، وعند انتهاء الدرس طلبت من أستاذتها أن تعيد لها هاتفها لكنها رفضت ذلك رغم أنها أعلمتها بأنها كانت بصدد الإطمئنان على والدتها، وأمام اصرارها بعدم إعادة الهاتف قامت بدفعها وافتكاك الهاتف دون أن تعي بفضاعة ما أقدمت عليه من عنف تجاه أستاذتها بسبب الهاتف الجوال.
حادثة أعادت ظاهرة العنف المدرسي المستفحلة في تونس إلى دائرة الضوء، ليتجدد الجدل في ظل تكرر الحوادث وتصاعد وتيرة العنف والتنمر داخل المؤسسات التربوية وسط انتقادات للسلطة بالفشل في التصدي وتطويق هذه الظواهر في ظل الانتشار المخيف لوسائل التواصل الاجتماعي وآثارها السلبية على التلاميذ.
وزارة التربية تمنع استعمال الهواتف الذكية في المدارس
في السنوات الأخيرة، تعددت الأصوات وتعالت صيحات الفزع للمطالبة بفرض قانون صارم وملزم لمنع التلاميذ·ات من استخدام الهواتف الجوالة داخل المؤسسات التربوية بهدف حماية المدرسين·ات وتوفير بيئة تعليمية آمنة في ظل التجاوزات الخطيرة التي تهدد المناخ التربوي.
وفي محاولة لمجابهة مختلف مظاهر السلوك المنافي لقواعد الحياة المدرسية والتصدي لها، أصدرت وزارة التربية في ديسمبر 2024 مذكرة توجهت بها لمختلف المندوبيات الجهوية الراجعة لها بالنظر، تقضي بمنع استخدام الهواتف الذكية داخل المؤسسات التربوية لأي سبب من الأسباب كما قررت منع الأساتذة والأستاذات من التصوير داخل الفضاء المدرسي منعا باتّا، إلاّ بإذن مسبق من مدير·ة المدرسة.


لكنه قرار ليس بالجديد، حيث كانت وزارة التربية قد أصدرت منشورا بتاريخ 17 سبتمبر 2019 يقضي بمنع استعمال الهواتف الذكية وتحجير اصطحابها إلى المؤسسات التربوية لأي سبب من الأسباب،
ليطل علينا وزير التربية آنذاك حاتم بن سالم، ويتعهد بتطبيق هذا القرار ويتوعد


كل من يُعثر لديه على هاتف سيلقى بجهازه في سطل ماء،
إلا أن هذا القانون ظل مثله مثل عديد القوانين الأخرى حبرا على ورق. ليعود للواجهة مجدّدا أواخر سنة 2024، حيث دعا وزير التربية نور الدين النوري، يوم الجمعة 27 ديسمبر 2024، مديري·ات المؤسسات التربوية إلى التطبيق الفوري لمنع استخدام الهواتف الذكية داخل المدارس والمعاهد.
تطبيق هذا القانون سيخلق صراعات بين التلاميذ والأستاذ.. فكيف سيتم منعي من استعمال هاتفي الشخصي لكن في المقابل يتم السماح بذلك للأستاذ؟
تلميذ باكالوريا مرسم بأحد المعاهد بالكاف (م)
هكذا تحدث التلميذ (م) في تصريح لكشف ميديا، مشيرا إلى أنه مازال إلى حد هذه الساعة يستعمل هاتفه الذكي في المعهد مثله مثل بقية زملائه وزميلاته.
وأضاف التلميذ أن هذا القرار لا يمكن تطبيقه داخل المؤسسات التربية لأنه سيخلق صراعات وخلافات مع الأساتذة والأستاذات الذين بدورهم يستخدمون هواتفهم الذكية مبينا أن هناك بعض الأساتذة والأستاذات يطلبون منهم استخدام الهواتف داخل القسم لتداول الدروس بدل الكتاب.
وبتجولنا داخل عدد من المعاهد بالعاصمة تونس، لاحظنا أن جميع التلاميذ يتجولون بهواتفهم الذكية داخل المعاهد ويستخدمون مختلف وسائل التواصل الاجتماعي خاصة “التيك توك” ورصدنا تلاميذ يلتقطون الصور ويغنون وآخرون يرقصون على هذه التطبيقة.
اليوم نتحدث عن ظاهرة التنمر وكأن القطع مع الهواتف الذكية من شأنه أن يحد من ظاهرة العنف.. نقول لوزارة التربية بأن المسألة تتجاوز المذكرة
الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي
من جهته، اعتبر الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي، أن هذه المذكرة مر عليها الزمن والغريب في الأمر أنه كلما حدث حادث في المؤسسات العمومية إلا وعادت وزارة التربية إلى أرشيف المذكرات والبلاغات لإعادة نشرها.
ويعتبر محدثنا أن حادثة انتحار الأستاذ فاضل الجلولي بعد أن أقدم على إضرام النار في جسده، هي القطرة التي أفاضت الكأس في علاقة بالوضع التربوي وتحديدا في علاقة بتفاقم ظاهرة العنف المدرسي، قررت وزارة التربية منع الهواتف الجوالة رغم أنها مازالت تمثل إلى حد اليوم مشهدا مألوفا لدى التلاميذ داخل المؤسسات التربوية.
حيث لم تدرك سلطة الإشراف أن واقع المؤسسات التربوية لا يمكن اختزاله في مذكرات أو بلاغات لأن المسألة تتعلق بمقاربة شاملة للوضع التربوي، وفق محدثنا الذي دعا إلى اعادة النظر في المنظومة التربوية لأنها المدخل الرئيسي لكل مايمس من القيمة الاعتبارية للمؤسسة والمربين والمربيات ولأن الهواتف الجوالة تمثل جزء لا يتجزأ من واقع تربوي يعيش ويئن ضمن هذا الوضع الكارثي الذي نمر به في علاقة بنقص التجهيزات و الكثافة داخل الفصول.
قرار منع استعمال الهواتف الذكية في المؤسسات التربوية غير قابل للتنفيذ ومخالف للمرسوم 54
رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء
من جانبه، يرى رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء، أن هذا القرار موجود منذ سنة 2018 معتبرا أن الإشكالية المطروحة اليوم تتمثل في قدرة المؤسسات التربوية التونسية في تطبيق هذا القرار على أرض الواقع.
وفي تصريح لكشف ميديا، يعتبر الزهروني أن المرسوم عدد 54 ينص على أنه لا يمكن سحب الهاتف أو الاطلاع على محتوياته إلا بإذن قضائي و يجب أن يكون هناك اجراء ترتيبي، نظام داخلي ومرجعية قانونية لتطبيقه مع ضرورة تشريك الأولياء، بالتالي فإن هذا القرار مخالف للقانون معتبرا أن إصدار وزارة التربية هذا القرار بعد حادثة انتحار الأستاذ فاضل الجلولي جاء فقط تفاعلا مع رغبة الرأي العام مرجحا أن يكون ذلك سببا من الأسباب الإضافية في تزايد ظاهرة العنف داخل المؤسسات التربوية.
في المقابل، هناك العديد من البلدان التي أقرت منع استعمال الهواتف داخل المؤسسات التربوية وأدرجت هذا الإجراء ضمن قوانينها، وفي هذا الإطار حذر محدثنا من مخاطر إدمان الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي مشددا على دور الأولياء في توعية أبنائهم بخصوص مخاطر استعمال الهواتف الذكية في ظل ما يعرف بالذكاء الاصطناعي.
وعلى صعيد متصل، يرى سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، أن الهواتف الجوالة أصبحت ظاهرة داخل المؤسسات التربوية وقد أثرت بشكل سلبي على عمليتي التعليم والتعلم عبر تشتيت انتباه التلاميذ وتركيزهم داخل القسم إضافة إلى تزايد حالات الغش في الامتحانات مع التعدي على خصوصية الأستاذ وحرمة المدرسة وقاعات الدرس مما يتسبب في حالات انفعال وتوتر ويؤثر على قيمة المؤسسات التربوية إضافة إلى تزايد مخاطر تعرض التلاميذ إلى حالات العنف و البراكاجات بسبب الهواتف الجوالة.
الهواتف الجوالة تؤثر بشكل كبير على قدرة التلميذ على الإستيعاب والفهم باعتبار أن الدماغ البشري علميا يستطيع تحليل 24 صورة فقط في الثانية
سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم
لكن مع تطور الهواتف الجوالة أصبح هناك عدد كبير من الصور التي تمر على عين ودماغ الطفل في الثانية الواحدة مما يتسبب في اضطراب كبير على طريقة التفكير وآداء الدماغ والتي تؤدي بدورها إلى نتائج كارثية على الطفل.
كما يرى محدثنا أن “قرار منع الهواتف الجوالة داخل المؤسسات التربوية ليس بدعة تونسية وهو إجراء معمول به في العديد من النظم التربوية عالية الأداء في العالم”.
ويضيف “هو قرار وجيه لكنه غير مطبق ونافذ وعدم تطبيقه بعد إصدار المذكرة الأخيرة لوزارة التربية هو اضعاف جديد لسلطة وهيبة المؤسسة التربوية”، ليختتم حديثه قائلا “آن الأوان لإنفاذ مثل هذه القوانين.. الهاتف الجوال هو عنصر تدمير للعملية التربوية ككل ومنعه داخل المؤسسات التربوية قرار وجيه ونطالب بتطبيقه”.
تجارب منع الهواتف في المؤسسات التربوية في العالم
أمام تزايد المخاوف من تأثيرات الهواتف الذكية على حياة الأطفال، واستجابة لتوصيات تقرير اليونسكو لسنة 2023، الذي دعا لاستخدام الهواتف في المؤسسات التربوية لدعم التعلّم فقط، اتخذت العديد من الدول في العالم إجراءات لمنع أو الحد من استعمال الهواتف الذكية داخل هذه المؤسسات.
وكانت فرنسا من أول الدول التي فرضت حظرا كلّيا على استعمال الهواتف داخل المدارس الابتدائية والثانوية منذ سنة 2018، ثم تبعتها دول أخرى في اتخاذ ذات القرار على غرار إيطاليا، إنجلترا، أستراليا، إسبانيا، المجر، السويد، هولندا وكندا.
في المقابل تعمل العديد من الدول الأخرى على تبني سياسات مشابهة مثل البرتغال والدنمارك وبلغاريا، من خلال مناقشة تشريعات متعلّقة باستعمال الهواتف في المدارس أو الحد منها.
وقد أظهر منع الهواتف الذكيّة في المدارس فعالية في الحد من تشتّت الانتباه لدى التلاميذ·ات، وفق تقرير لبرنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) لسنة 2022، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD.
في تونس أيضا توجد قرارات قضائية مشابهة، فقد أصدرت الدائرة 38 بالمحكمة الابتدائية بتونس 1، بتاريخ 17 سبتمبر 2018 قرارا يقضي بمنع استعمال الهواتف الذكية بالمؤسسات التربوية و برياض الأطفال والمحاضن المدرسية.
كما أصدر قاضي الأسرة بالمحكمة الابتدائية بالمنستير يوم 16 أكتوبر 2018، قرارا بمنع استعمال الهواتف الذكية واللوحات الرقمية من قبل الأطفال بمختلف مؤسسات الطفولة المبكّرة والمحاضن المدرسية والمدارس الابتدائية والإعدادية، باستثناء الاستعمال البيداغوجي وتحت إشراف المختصين وفي إطار البرامج الرسمية للوزارات المعنية.
وأصدرت المحكمة الإبتدائية بقابس بتاريخ 10 أكتوبر 2018، قرارا يقضي بمنع استعمال الهواتف الذكية بمختلف مؤسسات الطفولة المبكرة والمحاضن المدرسية والمدارس الإبتدائية والإعدادية وذلك عملا بأحكام الفصل 20 من مجلة حماية الطفل نظرا لخطورتها على السلامة البدنية والمعنوية للطفل.
لكن، رغم هذه الأحكام القضائية، ورغم تعدد مناشير وزارة التربية وتتالي التصريحات يبقى هذا القرار ‘حبرا على ورق’ محفوظا في الأدراج، يتم استحضاره مع كل حادثة عنف مدرسي جديدة وما يلبث أن يعود إلى حيث كان.
منع الهواتف في المدارس التونسية
جدول زمني تفاعلي (2018 – 2025)
تم تطوير هذا التسلسل الزمني استنادا إلى أحداث واقعية ومستندات رسمية تم التحقق منها من قبل فريق كشف ميديا.
وزير التربية يدعو إلى التطبيق الفوري لمنع استخدام الهواتف الذكية على التلاميذ
في ديسمبر 2024، دعا وزير التربية نور الدين النوري، في تصريح إعلامي، إلى التطبيق الفوري لمنع استخدام الهواتف الذكية على التلاميذ في المؤسسات التربوية، مطالبا المندوبين ومديري المؤسسات التربوية بضرورة فرض تطبيق القرار في جميع المدارس والمعاهد.
وأضاف الوزير قائلا “مهما كان حجم الصعوبات لا بد من انخراط مديري المؤسسات التربوية في منع استعمال الهواتف الذكية بالنسبة للتلاميذ” مبينا أن منع الاستخدام لا يعني مطلقا حجز هذه الهواتف أو منع وضعها في الجيب أو المحفظة مغلقة من طرف التلاميذ بل يستهدف منع استعمالها التوقي من السلوكيات المحفوفة بالمخاطر”.
كما أوضح الوزير، أن منع استعمال هذه الهواتف الجوالة يقتصر على الأنواع الذكية ولا يشمل باقي الهواتف الجوالة العادية .
وفي انتظار تفعيل مذكرات منع استعمال الهواتف الجوالة داخل المؤسسات التربوية وتحويل هذا القانون من حبر على ورق إلى قانون يطبق على أرض الواقع يتواصل إلى اليوم استعمال الهواتف الجوالة داخل الوسط المدرسي وما يرافق هذا السلوك من ردود فعل، مشكل يلخصه القيم فريد الحامدي بعد أن تم الإعتداء عليه بتاريخ 29 أفريل 2025: نفذتُ مهامي و سحبت الهاتف من تلميذة فصفعت من قبل والدتها أمام الأساتذة والإداريين.
يقف التلميذ “م” وهو ينظر الى باب المعهد حاملا حقيبته في يده، ثم يمدّ هاتفه الذكي لتظهر على شاشته صور للدرس الذي كان من المفترض أن يتلقاه داخل القاعة،
يقول بصوت هادئ فيه نبرة تأكيد وتعجب :
“كل الدروس موجودة في هاتفي! فلماذا سأدخل القاعة.. سأعود أدراجي إلى المنزل”.
ثم يُعيد الهاتف إلى جيبه، ويشدّ حقيبته على كتفه، متوجهاً نحو منزله.