الحبيب ليس الوحيد في تونس، الذي يجد نفسه في مواجهة غير متوقّعة مع مرض السرطان، المرض الذي يلقب بالـ”خبيث”، لا يُذكر إسمه في تونس إلاّ همسا و بصوت خافت، مصحوبا بــ”عافانا وعافاكم الله”. كأنّه اللعنة التي تنزل على البشريّة يُخشى نُطقها أو تداوُل الحديث عنها. لكن خلف هذا الهمس تختفي قصص معاناة يومية لآلاف المرضى بين آلام جسدية قاسية وضغوط نفسية واجتماعية مضاعفة.
أنت مريض بالسرطان
يقول حبيب متنهّدا وتبدو على وجهه علامات الحسرة والألم
كانت حياتي تمضي كسائر الناس، خطّطت لتقاعدي كأي رجل ينتظر هذه الفترة للتمتّع بالراحة بعد سنوات طويلة من العمل والكدّ، لكن شاءت الأقدار عكس ذلك
تعود رحلة حبيب مع المرض إلى سنة 2020، حيث كان يستعدّ لتقديم وثائق إحالته على التقاعد. لكنّه شعر بآلام غير معتادة أجبرته على زيارة عيادة الطبيب والقيام بفحوصات سريعة، ليكتشف فيما بعد أنه مريض بالسرطان.

لم يخطر ببال الحبيب أنه سيقضي ما تبقّى من حياته بين المستشفيات، فوجد نفسه يقف عند خيارين، إمّا الصمود والمقاومة، أو الاستسلام السريع الذي يعني الهزيمة. لكن بفضل تجربته و نشاطه في المجتمع المدني والحياة السياسية، نحت شخصيّة قويّة مكّنته من مقاومة المرض. حيث بات يتعايش معه ولم يعد يزعجه، حتى أن حصص الأشعّة لم ترهبه ولم تؤثّر عليه صحيّا ولا نفسيّا فلم تظهر عليه أي تأثيرات جانبيّة.
بات حبيب اليوم يحلم بتأسيس جمعية تُعنى بالمرافقة النفسية لمرضى السرطان؛ لأن الدعم النفسي هو العلاج الأول قبل أي دواء، وفق قوله.
أرقام غير محيّنة
تشير المعطيات والشهادات المجمّعة من عديد المصادر إلى ارتفاع مفزع في الحالات المسجّلة بإصابة السرطان، فنادرا ما تجد عائلة لم تسجّل إصابة أحد أفرادها بمرض السرطان، والمرض ينتشر بين الصغار والكبار رجالا ونساء.
لا تملك وزارة الصحة التونسية معطيات وأرقام محيّنة حول أعداد مرضى السرطان في تونس وولاية قفصة، وفي دلالة على ذلك ما قدمته من معطيات للنائب بالبرلمان الحالي عبد الرزاق عويدات بعد أن تقدّم بداية سنة 2024 باستجواب لوزارة الصحة حول مدى انتشار مرض السرطان.
وقالت الوزارة في ردّها على أسئلة النائب الكتابية أنه خلال بداية سنة 2024 أحصت 18770 إصابة جديدة بمرض السرطان سنة 2023، تتوزع بين 10850 إصابة لدى الذكور و8620 لدى الإناث.

أرقام يبدو أن الوزارة لم تقم بتحيينها، فقد سبق أن قُدّمت هذه الأرقام، سنة 2019، من رئيس قسم الوبائيّات بمعهد صالح عزيز لمرض السرطان، محمد حصايري في تصريح نقلته وكالة تونس أفريقيا للأنباء. حيث بيّن أنّ أكثر أنواع السرطان انتشارا في صفوف الرجال، سرطان الرئة في المرتبة الأولى بنسبة 35.2 بالمائة، يليه سرطان المثانة في المرتبة الثانية بنسبة 22.1 بالمائة، فيما يحتل سرطان البروستات المرتبة الثالثة بنسبة 19.5 بالمائة، أما في المرتبة الرابعة نجد سرطان القولون بنسبة 14.6 بالمائة ثم سرطان المستقيم بنسبة 9.5بالمائة.
📊 إحصائيات أكثر أنواع السرطان شيوعًا في تونس
أما في صفوف النساء يحتل سرطان الثدي المرتبة الأولى بنسبة 74.9 بالمائة ثم سرطان القولون في مرتبة ثانية بنسبة 12.4 بالمائة ثم سرطان المستقيم في المرتبة الثالثة بنسبة 6 بالمائة، والغدة الدرقية 5.4 بالمائة وفي مرتبة أخيرة سرطان عنق الرحم بنسبة 3.1 بالمائة.
إمرأة على كل ثمانية مصابة بالسرطان
تشير سعاد علياني، رئيسة المكتب الجهوي للجمعية التونسية للقابلات بقفصة، إلى أن الأرقام تؤكد إصابة إمرأة على كل ثمانية بسرطان الثدي وإن الوقاية منه لا تزال دون المأمول.
واعتبرت سعاد علياني في حديثها مع كشف ميديا أن العلاج يتطلب مرافقة وعناية متكاملة في المؤسسة الصحيّة و هي الحاضنة الأولى، لكن يجب أن يتجنّد الجميع من أجل ذلك، مشدّدة على أن المرافقة النفسية للمرضى/المريضات قبل وبعد العلاج أكيدة ومحددة للشفاء فمثلما يكون المريض/ة في حالة صدمة يكون محيطه العائلي كذلك.
نساء يسارعن بالاختفاء والابتعاد عن الأنظار مباشرة بعد علمهنّ بالإصابة

تأكيدا على ضرورة المرافقة النفسية للمرضى/المريضات وأن البروتوكول العلاجي يكون من أولوياته العلاج النفسي، تقول سعاد علياني إن هناك نساء يسارعن بالاختفاء والابتعاد عن الأنظار مباشرة بعد إعلامهنّ بالإصابة وقد يحدث أن ينقطع حتى الاتصال بهنّ، لهذا تؤكد سعاد ضرورة عمل الجميع على اعتماد العلاج النفسي والمرافقة الدائمة للمريض/ة.
بثينة، امرأة من مدينة قفصة، تفتح قلبها لـ’كشف’ وتروي تجربتها القاسية مع مرض السرطان. يوم تلقت الخبر، شعرت وكأن جسدها انهار فجأة، وتهاوت معه كل الثقة التي كانت تحملها في الحياة وفي ما تؤمن به. لحظة صادمة جعلتها تعتقد أنه لا خيار لها سوى الاستسلام للواقع المر.
مثل أغلب الحالات كان اكتشاف مرض السرطان لديها صدفة، حصة علاج عند أحد الأطباء كانت حاسمة ليقول لها طبيبها “أنت مريضة”.
” أكثر ألم نفسي ومضايقة عشتها حين تسألني صديقاتي “كيف ستعيشين من دون ثدي .. دعينا نرى مخلّفات العملية”
بثينة
بفضل مساعدة عائلتها تمكّنت بثينة من تجاوز حالة الارتباك والفزع وبدأت في رحلة العلاج المضنية.
تروي بثينة قصتها والحزن يملأ تعابير وجهها، وهي تستحضر أيامها الأولى بعد ثبوت إصابتها فقد كانت قلقة من الرعاية الطبية والأعباء الماليّة التي ستتحملها وعائلتها، إضافة إلى الشعور بالعبء على عدم القدرة والوفاء بأدوار اجتماعية كالأمومة وغيرها.
لم يكن من السهل على بثينة إتمام مراحل العلاج الأولى فالتحاليل وصور الأشعّة قامت بها في مخابر خاصة حيث كان الأمر مكلفا جداً في القطاع الخاص، مع ما يمثّل ذلك من ارتفاع في كلفة العلاج.
ما كان يؤلم بثينة أكثر من التدخل الجراحي الذي تطلب استئصال جزء من الثدي، هو نظرة النساء التي كانت مستفزة أثناء طرح الأسئلة بعد هذا التدخّل الجراحي فحتى وإن كانت نواياهنّ حسنة، فالشفقة والتحسّر البادي على وجوههنّ يضاعف من آلامها.
مجتمع لا يرحم
من جانبها تقول الأخصائية النفسية سندس قربوج إن مرض السرطان إضافة إلى خطورته كمرض جسدي، تحيط به هالة من المعتقدات التي تكون في أغلب الأحيان معتقدات خاطئة، فمجرّد تسميته بـ”المرض الخايب” لها تأثير نفسي سلبي وإشارة إلى صعوبة المقاومة والقضاء عليه.
التعهّد بمرض السرطان لا يمكن أن يكون إلا تعهّدا من اختصاصات مختلفة
سندس قربوج أخصائية نفسية
فإلى جانب التعهّد الطبّي الذي لا جدال فيه، يجب أيضا التعهّد النفسي بالمرضى/المريضات وبعائلاتهم/هن باعتبار أن “الصمود النفسي للمريض/ة وعائلته/ها يمكن أن يشكّل معطى من المعطيات التي يمكن أن تجعل مآل المرض أحسن”.
وتشدّد قربوج على أهمية دور العائلة في الإحاطة بالمريض/ة ومساعدته/ها، لما يمنحه ذلك من صمود وقوة يكتسبها/تكتسبها بوجود محيط آمن حوله/ها.
الإطار الطبي وشبه الطبي المحيط بالمريض/ة يلعب أيضا دورا مهما في رحلة العلاج من خلال التواصل الفعّال مع المريض/ة وطريقة الحديث معه/ها والإنصات إليه/ها، ممّا يساعد المريض/ة على التعامل مع مرضه/ها، لأن “العلاج الطبي من خلال الأدوية لا يكفي لوحده”.
في انتظار الدواء: المرضى يحاربون وحدهم
عادةً ما يلتجئ مرضى ومريضات السرطان في بداية مشوارهم/هن العلاجي إلى القطاع الخاص، بحثًا عن سرعة التدخل وجودة الخدمات. لكن سرعان ما يصطدمون/ن بالواقع: كلفة العلاج باهظة، لا تقوى عليها أغلب العائلات. عندها، لا يبقى أمامهم/هن سوى اللجوء إلى القطاع العمومي، رغم صعوباته.
يقول حبيب التباسي، إن المستشفيات الجهوية تفتقر أحيانًا إلى المعدّات اللازمة وبعض التحاليل الضرورية، ما يعيق مسار العلاج ويؤخره. ويضيف: “في السنوات الأخيرة، تعقّدت المتابعة بفقدان أدوية أساسية موجهة لمرضى السرطان. غيابها يضاعف المعاناة، خاصة لدى الفئات الفقيرة، ويؤثر سلبًا على حالتهم الصحية.”
ورغم المرض، يواصل الحبيب كفاحه اليومي لتوفير قوت نعاجه، متمسكًا بمصدر رزقه البسيط، في وقت عجزت فيه الدولة عن تأمين دوائه. رسالته لكل المرضى: “العائلة هي الحضن الأول والأخير، وهي من تمنحك القوة للاستمرار.” ويدعوهم/هن إلى الشجاعة والمقاومة قائلًا:
يجب أن نعتقد دوما أن أيّاما أفضل تنتظرنا مهما كان الألم .
من جهتها، تستحضر بثينة، رحلتها الطويلة مع المرض، وتؤكد أن الحفاظ على المواعيد الطبية والثقة بالله هما الركيزتان الأساسيتان لعبور المحنة. وتختم قائلة:
حتى خلال أحلك أيام الرحلة يجب أن تثق بالله وتلتزم بمواعيدك الطبية، والأهم أن تظل روحك المعنويّة وحالتك النفسية عالية، فذلك هو مصدر الأمل للجميع.