في منطقة السند بولاية قفصة، التي تحتضن تاريخًا غنيًا وطبيعة جبلية ساحرة، انطلق مهرجان القرى الجبلية أمس 4 أفريل 2025 في دورته الجديدة، ليستمر ثلاثة أيام تمتلئ بالحياة. معارض تراثية، أكشاك للأكلات الشعبية، وعروض موسيقية جذبت الآلاف من الوافدين من داخل الولاية وخارجها، تنفض الغبار مؤقتًا عن قرية شبه مهجورة، لا يقطع صمتها إلا أنفاس بضع عائلات تشبثت بأرضها بعد أن هجرها معظم سكانها بحثًا عن فرص أفضل في المدن.
قرية تنتظر نبضًا دائمًا
قبل انطلاق المهرجان، كانت قرية السند غارقة في صمتها. بيوت متباعدة، بعضها متصدع الجدران، وبعضها يأوي عائلات قليلة تقاوم العزلة. الشوارع تبدو مهجورة. الحاجة علجية السندي، إحدى أقدم سكان المنطقة، تجلس أمام بيتها المتواضع تقول لكشف”كنت أخرج مع الفجر لأقتلع الحلفاء وأبيعه بثمن زهيد يكفيني يومي. كان عملًا شاقًا، لكننا كنا نعيش”. ذكرياتها تعود إلى أيام الاستقلال الأولى: “رأيت الجنود الفرنسيين يتراجعون من الجبل، بنادقهم منكسة والهزيمة بادية في عيونهم. كان يوم فرح”. وتضيف: “في أيام المهرجان تعود الحياة، يأتي الناس وتضيء الشوارع، لكن بعده يرحل الجميع، حتى المسؤولون لا نراهم إلا بهذه المناسبة ، ثم يتجاهلون السند”. وتعبر عن أملها في أن تُوظف ابنتها زهيرة، المعطلة عن العمل، في منصب يكافئ صبرها كأم
ابنتها زهيرة السندي، المعطلة عن العمل منذ17سنة ، تقف بجانب أمها وتقول “أحب أن أعمل، لأرجع ولو جزء صغير من تعب أمي. هي ضحت كثيرا”. تحلم زهيرة بيوم تكون فيه عونًا لأمها، لكن واقع القرية القاسي يجعل حلمها بعيد المنال
تراث يروي قصة البقاء
في اليوم الأول ، حوّل عزالدين قليعي، ، إحدى المساكن البربرية المحفورة في الجبال إلى متحف صغير يعكس تراث المنطقة وسكانها القدامى. المعرض ضم سلالًا منسوجة من القصب، أواني فخارية تحمل نقوشًا بسيطة تعكس حياة الأجداد، قطعًا نقدية قديمة، ووثائق مكتوبة تشهد على تاريخ طويل. وفي تصريح لكشف قال قليعي: “نسعى من خلال هذا المعرض إلى إبراز تراث السند العريق، وإظهار كيف عاش أسلافنا وصمدوا في هذه الأرض، بهدف تعريف الزوار بقيمة هذا الإرث الثقافي”..
في ركن آخر، تقف عايشة راشدي في ورشتها، تعرض منتوجاتها من المرقوم والكليم والبخنوق المصنوعة بمهارة موروثة عن القدامى. ورشتها الصغيرة جذبت أنظار الزوار. “أنا هنا في هذه القرية أعمل على المحافظة على هذا المنتج”، تقول لـكشف. وتضيف: “أحاول أن أؤمن قوتي اليومي من خلال هذا العمل، لكن المواد الأولية مرتفعة الثمن، والبيع والشراء ليسا بالقدر الكافي لتغطية التكاليف”. تؤكد عايشة أنها تسعى للحفاظ على هذا التراث رغم التحديات، لكنها تناشد الجهات المعنية الدعم ونرغب في مساعدة من السلطات والمؤسسات لنتمكن من صون هذا الفن، سواء بتوفير المواد بأسعار مناسبة أو فتح أسواق جديدة لتسويق المنتجات”.
نجاح مؤقت يضيء الجبال
محمد ناصري، مدير المهرجان، يقول “لقد بذلنا جهودًا كبيرة لضمان نجاح هذه الدورة، وقد سجلنا حضور ما يقارب 12 ألف زائر لمتابعة عرض الفنان نور شيبة أمس، وهو رقم يعكس النجاح الكبير الذي حققناه”. الشوارع التي كانت خالية امتلأت بالحركة، والأضواء أنارت الجبال ليلاً في مشهد نادر. وأضاف: “شهدنا إقبالًا من قفصة وتونس وحتى من ولايات بعيدة، وهدفنا الأساسي هو تسويق صورة إيجابية للسند وقفصة، مع مواصلة العمل لجذب المزيد من الزوار وخلق فرص تنموية جديدة”. هذا الحضور الكبير منح التجار المحليين دفعة اقتصادية، ومع استمرار الفعاليات اليوم، يتوقع ناصري زيادة في الإقبال.
زياد شرقي، ممثل وزارة السياحة، قال نامل في الوزارة أن يكون لكل مهرجان خصوصية تعزز الترويج للسياحة”. وأردف: “هذه المناسبات تسهم في التنمية المستدامة وتجذب الزوار للتراث الغني، والسند تمتلك طابعًا خاصًا، وهذا الإقبال دليل على إمكانياتها الكبيرة ،أهني أبناء السند بهذا النجاح”
نداء السند: من يسمع ويستجيب؟
مع استمرار المهرجان اليوم، تجلس علجية أمام بيتها تطل على الزوار، وتقول: “إذا لم يكن هناك عمل وخدمات، فإن السند ستموت”.
المهرجان، بنجاحه الملحوظ وحضور الآلاف، يجسد صرخة قرية منسية تسعى للفت الأنظار، لكن في غياب دعم مستمر يحقق تنمية ملموسة، يظل السؤال عالقًا بين الجبال: من يحقق حلم أبناء القرية؟