بين حلم المهاجرين.ات بالوصول الى اوروبا وبين واقعهم المرير الذي يفرض عليهم العيش في ظروف صعبة، تحولت صفاقس في الاونة الاخيرة الى احدى مناطق تجمع المهاجرين من دول افريقيا جنوب الصحراء. وبذلك، اصبحوا عالقين في مساحات ضيقة في انتظار تحديد مصيرهم. ومع هذا الوضع، يبقى السؤال المطروح: من المسؤول عن الازمة في المنطقة، واي حلول رأتها السلطة الانسب لمجابهتها؟
اتهامات بتغيير التركيبة الديموغرافية
وفي سياق متصل، اثارت تصريحات رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد بتاريخ 21 فيفري 2023 جدلا واسعا. فقد اتهم فيها المهاجرين من دول افريقيا جنوب الصحراء بالمشاركة في مخطط اجرامي يهدف الى تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد، مما تسبب في موجة من العنصرية والاعتداءات. دفعت بهم للبحثدعن أماكن آمنة خارج مناطق العمران،وعلاوة على ذلك، قطع ارباب العمل التونسيون تعاملهم مع المهاجرين من جنوب الصحراء، الذين وجدوا أنفسهم في الشوارع محالين الى بطاقة قسرية دون سابق انذار.
مناخ الخوف والتحريض
وفي الوقت نفسه، يسود مناخ مشحون بالخوف وانعدام الامان، حيث لا حديث الا عن النظرات المؤامراتية. وفي هذه الاجواء وجد هؤلاء الحالمين بحياة كريمة وبالتشغيل انفسهم امام معاناة طويلةً والادهى من ذلك، ان التحريض الذي غزا مواقع التواصل الاجتماعي بلغ حد التهديد بالتصفية الجسدية، مما يزيد من تعقيد معاناتهم
لماذا صفاقس؟
لا تتجاوز المسافة بين صفاقس وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية 190 كيلومترا وهي أقل من ذلك انطلاقا من مدينة الشابة أو المهدية أو المدن الأخرى في ذلك الخط الساحلي، في حين قد تستمر الرحلة في الظروف العادية ومن نقاط معينة نحو 10 ساعات إلى 18 ساعة، مما جعل هذا الشريط ومدنه وقراه نقطة جذب قوية للمهاجرين·ـات غير النظاميين·ـات.
يعكس هذا القرب الجغرافي أهمية تونس كمحطة رئيسية للهجرة، حيث أعلنت المنظمة الدولية للهجرة في تحديثاتها الصادرة يوم الجمعة 21 مارس 2025، أن عدد المهاجرين حول العالم بلغ 304 ملايين نسمة، مع تسجيل ما يقارب 9 آلاف وفاة على طرق الهجرة خلال 2024، وهو رقم قياسي يعكس مخاطر التنقل البشري.
في شمال إفريقيا، تستقبل تونس أكثر من 63 ألف مهاجر، بينما تضم الجزائر 259.5 ألف، ليبيا 897.8 ألف، المغرب 111.1 ألف، ومصر 1.1 مليون.
وفي ظل تصاعد التحذيرات من أن تتحول تونس إلى خط دفاع بحري لأوروبا،أظهرت بيانات وكالة الأنباء الإيطالية نوفا انخفاضًا ملحوظًا في عدد المهاجرين الواصلين إلى إيطاليا من تونس، حيث تقلص العدد في الفترة الممتدة من مطلع جانفي إلى 14 مارس سنة 2024 من 6421 إلى 291 فقط من ذات الفترة سنة 2025، مقارنة بـ7762 من ليبيا.
وكان الربع الثالث من 2024 قد سجل وصول 23676 مهاجرًا، 24% منهم انطلقوا من تونس، معظمهم من سوريا وبنغلاديش وتونس، بحسب المنظمة
آمال تبعثرها الرياح ومدينة تحت الضغط
رسم المهاجرون في مخيلتهم صورا لأوروبا تلك القارة العجوز التي تلوح في الأفق بوعود بحياة أفضل لكن الرياح عصفت بأحلامهم. ففشلوا في عبور البحر إلى جزيرة لامبيدوزا وتوقفوا عالقين في صفاقس التي تحولت بغير قصد إلى سجن مفتوح لآمالهم. هناك يصطدمون بواقع مرير لا مأوى ولا ماء نظيف ولا طعام كاف. تبدو الرعاية الصحية لهم حلما بعيدا كالضفة الأخرى التي لم يبلغوها. هكذا وصف رمضان بن عمر الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هذا الوضع المأساوي في تصريح لكشف ميديا مشيرا إلى أن المهاجرين جاؤوا بحثا عن كرامة لكن جدران الإهمال حاصرتهم
كما أثبتت دراسة للمنتدى أن أكثر من نصف المهاجرين·ـات واللاجئين·ـات وطالبي اللجوء من دول إفريقيا جنوب الصحراء يعيشون حاليا في “ظروف غير لائقة” في تونس.
وخلصت الدراسة التي أجراها المنتدى حول الهجرة غير نظامية شملت 379 مهاجراً·ة، إلى أن أكثر من نصف المهاجرين·ـات في تونس يعيشون “في الشوارع والحدائق العامة والخيام”.
في المقابل تأثر أهل المدينة بتبعات هذا التدفق الذي لم يخططوا له فباتوا يعانون ضغوطًا اقتصادية متزايدة ونقصًا في الموارد علاوة على تواتر عمليات السرقة والاعتداءات بلغت حد افتكاك أراضيهم حسب شهادات عدد من متساكني·ـات المنطقة الذين التقيناهم في وقت سابق
“تونس حارس للحدود البحرية مقابل حفنة من المال”
وراء هذا الواقع القاسي تقف سياسات واتفاقيات دولية تهدف الى كبح الهجرة غير النظامية. ففي أكتوبر 2011 بدأت تونس والاتحاد الأوروبي بوضع خطة طويلة الأمد للحد من الهجرة غير النظامية فخرجت شراكة التنقل في ديسمبر 2013 بهدف كبح التدفقات وتسهيل إعادة من يفشلون في العبور الى بلدانهم الاصلية . وبحلول 16 جويلية 2023 عززت مذكرة تفاهم جديدة بـ1.1 مليار يورو منها 105 ملايين لتشديد الحدود وصد القوارب، مع التزام الاتحاد الاوروبي بتقديم معدات وتدريب لتحسين ادارة الحدود التونسية، في حين أكدت تونس أنها ليست بلد استقرار للمهاجرين غير النظاميين وأنها ستقتصر على حماية حدودها فقط . وعلى المستوى المحلي اعتمدت تونس سياسات امنية مشددة شملت تعزيز المراقبة البحرية وتكثيف التوقيف مما جعل صفاقس درعا ضد الهجرة غير النظامية لكنها حولتها في الوقت ذاته الى مأزق للعالقين وسط غياب برامج انسانية شاملة لدعمهم.
المرصد التونسي لحقوق الإنسان:
نرفض إجراءات تنوي إيطاليا والاتحاد الأوروبي اعتمادها لتحويل تونس إلى حارس للحدود البحرية مقابل حفنة من المال
هذا التحول في صفاقس من ممر عبور الى نقطة “احتجاز” جاء نتيجة للسياسات الأمنية والدولية التي قلصت أعداد الواصلين إلى أوروبا، مما يعكس تراجع دور تونس كنقطة انطلاق. لكن هذه السياسات زادت الضغط بفعل إجراءات داخلية شددت السيطرة على الحدود، محاصرة المهاجرين بين ظروف معيشية بائسة ومخاطر عبور البحر، مما يهدد باستمرار الأزمة الإنسانية والاجتماعية على المدى الطويل.
الحلول المطروحة لمجابهة الأزمة
لتجاوز هذه الازمة تبرز الحاجة الماسة الى مقاربات مبتكرة تجمع بين كبح الهجرة غير النظامية وتحسين أوضاع المهاجرين·ـات العالقين مع ضمان الالتزام بالمعاهدات الدولية وتهدئة التوترات المتصاعدة بين السكان المحليين والوافدين.
“المطلوب من الدولة التونسية أن يكون لها استجابة أكثر إنسانية لأزمة الهجرة غير النظامية.” رمضان بن عمر الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
في ذات السياق، يقدم الناشط الحقوقي مصطفى عبد الكبير رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان في تصريح لكشف ميديا رؤية عملية تعيد التوازن لهذا المشهد” المضطرب”:
“الدولة مطالبة بتحمل مسؤوليتها تجاه الوافدين سواء كانوا لاجئين او مهاجرين من خلال توفير الحماية الاساسية لهم بينما تقع على المنظمات الدولية مهمة تقديم الدعم اللوجستي والإنساني”
مشيرا إلى أنه ينبغي صياغة خطة محكمة تؤمن سلامة المهاجرين و تحترم الاتفاقيات الدولية مع إلزامهم بإيجاد عمل يحفظ كرامتهم خلال 90 يوما وفي حال فشلوا يتم ترحيلهم باشراف منظم او تيسير عودتهم الطوعية بكرامة.”
من جهته يرى الخبير القانوني الأستاذ محمد خليفي ان “ما يحدث للمهاجرين الافارقة جرائم لا تغتفر والدولة تتحمل مسؤولية التحريض على العنصرية عبر خطابها الرسمي لكن قانون 2018 يتيح معاقبة من يدعو للكراهية او التمييز بعام سجن مع مضاعفة العقوبة إذا كان ذلك علنيا ويمكن للمهاجرين اللجوء الى المحاكم التونسية بل والافريقية والدولية ان تعذر ذلك لمواجهة هذه الانتهاكات.”
لكن هذه الرؤى تصطدم بواقع سياسي واجتماعي معقد، حيث تبرز أطراف سياسية رافضة لوجود المهاجرين غير النظاميين، ومن بينهم النائبة عن صفاقس فاطمة المسدي التي اعتبرت العودة الطوعية غير فعالة واقترحت قانونًا لتنظيم الترحيل الطوعي والقسري مع احترام حقوق الإنسان، لكنه لم يُمرر في البرلمان بعد. وفي تدوينة نشرتها يوم 17 مارس 2025، أكدت أن ‘تونس دولة ذات سيادة وليست مستعمرة تُفرض عليها قرارات من الخارج’، داعية إلى سياسات صارمة تحمي البلاد من التدفق العشوائي للمهاجرين. وفي حين يبرر البعض هذه المقترحات بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية
في المقابل تحذر منظمات حقوقية، مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، من مخاطر الترحيل القسري، مطالبةً باستراتيجية وطنية واضحة تقوم على التعاون الدولي وتدعو إلى سياسات هجرة عادلة وإنسانية تراعي التحديات الاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن الخطاب التحريضي.
الأكيد ان صفاقس ليست مجرد بقعة جغرافية تتبع تونس، بل هي مدينة شاهدة على ازمة انسانية وامنية متفاقمة تلقي بظلالها على الجميع وتستدعي حلولا جذرية تعيد العدالة وتنهي المعاناة بقوة وحكمة.
بقلم: هادي الرداوي
تحرير: أيمن الطويهري
مرافقة تحريرية: شيماء الهمامي
رسوم: حمدي بالحاج